فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}.
نهي عن خصلة من خصال الجاهلية، وهي خصلة الكبرياء، وكان أهل الجاهلية يتعمدونها.
وهذه الوصية الخامسة عشرة.
والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب، وليس خطابًا للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لا يناسب ما بَعده.
والمَرح بفتح الميم وفتح الراء: شدة ازدهاء المرء وفرحه بحاله في عظمة الرزق.
و{مرحًا} مصدر وقع حالًا من ضمير {تمش}.
ومجيء المصدر حالًا كمجيئه صفة يرد منه المبالغة في الاتصاف.
وتأويله باسم الفاعل، أي لا تمش مارحًا، أي مشية المارح، وهي المشية الدالة على كبرياء الماشي بتمايل وتبختُر.
ويجوز أن يكون {مرحًا} مفعولًا مطلقًا مبينًا لفعل {تمش} لأن للمشي أنواعًا، منها: ما يدلّ على أن صاحبه ذو مَرح.
فإسناد المرح إلى المشي مجاز عقلي.
والمشي مرحًا أن يكون في المشي شدة وطْء على الأرض وتطاول في بَدن الماشي.
وجملة {إنك لن تخرق الأرض} استئناف ناشىء عن النهي بتوجيه خطاب ثانٍ في هذا المعنى على سبيل التهكم، أي أنك أيها الماشي مرَحًا لا تخرق بمشيك أديم الأرض، ولا تبلغ بتطاولك في مشيك طول الجبال، فماذا يغريك بهذه المِشية.
والخَرْق: قطع الشيء والفصل بين الأديم، فخرق الأرض تمزيق قشر التراب.
والكلام مستعمل في التغليظ بتنزيل الماشي الواطىء الأرض بشدة منزلة من يبتغي خرق وجه الأرض وتنزيله في تطاوله في مشيه إلى أعلى منزلة من يريد أن يبلغ طول الجبال.
والمقصود من التهكم التشنيع بهذا الفعل.
فدل ذلك على أن المنهي عنه حرام لأنه فساد في خلق صاحبه وسوء في نيته وإهانة للناس بإظهار الشفوف عليهم وإرهابهم بقوته.
وعن عمر بن الخطاب: أنه رأى غلامًا يتبختر في مشيته فقال له: إن البخترة مشية تُكره إلا في سبيل الله يعني لأنها يرهب بها العَدو إظهارًا للقوة على أعداء الدين في الجهاد.
وإظهار اسم {الأرض} في قوله: {لن تخرق الأرض} دون إضمار ليكون هذا الكلام مستقلًا عن غيره جاريًا مجرى المثل.
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}.
تذييل للجمل المتقدمة ابتداء من قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23] باعتبار ما اشتملت عليه من التحذيرات والنواهي.
فكل جملة فيها أمرٌ هي مقتضية نهيًا عن ضده، وكل جملة فيها نهي هي مقتضية شيئًا منهيًا عنه، فقوله: {ألا تعبدوا إلا إياه يقتضي عبادةً مذمومة منهيًا عنها}، وقوله: {وبالوالدين إحسانًا} [الإسراء: 23] يقتضي إساءة منهيًا عنها، وعلى هذا القياسُ.
وقرأ الجمهور: {سَيِّئَةً} بفتح الهمزة بعد المثناة التحتية وبهاء تأنيث في آخره، وهي ضد الحسنة.
فالذي وصف بالسيئة وبأنه مكروه لا يكون إلا منهيًا عنه أو مأمورًا بضده إذ لا يكون المأمور به مكروهًا للآمر به، وبهذا يظهر للسامع معان اسم الإشارة في قوله: {كل ذلك}.
وإنما اعتبر ما في المذكورات من معاني النهي لأن الأهم هو الإقلاع عما يقتضيه جميعها من المفاسد بالصراحة أو بالالتزام، لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح في الاعتبار وإن كانا متلازمين في مثل هذا.
وقوله: {عند ربك} متعلق بـ {مكروهًا} أي هو مذموم عند الله.
وتقديم هذا الظرف على متعلقه للاهتمام بالظرف إذ هو مضاف لاسم الجلالة، فزيادة {عند ربك مكروهًا} لتشنيع الحالة، أي مكروهًا فعلُه من فاعله.
وفيه تعريض بأن فاعله مكروه عند الله.
وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: {كان سيئة} بضم الهمزة وبهاء ضمير في آخره.
والضمير عائد إلى {كل ذلك}، و{كل ذلك} هو نفس السيء فإضافة سيىء إلى ضميره إضافة بيانية تفيد قوة صفة السيء حتى كأنه شيئان يضاف أحدهما إلى الآخر.
وهذه نكتة الإضافة البيانية كلما وقعت، أي كان ما نهى عنه من ذلك مكروهًا عند الله.
وينبغي أن يكون {مكروهًا} خبرًا ثانيًا ل {كان} لأنه المناسب للقراءتين.
{ذلك مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} عدل عن مخاطبة الأمة بضمائر جمع المخاطبين وضمائر المخاطَب غير المعين إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ردًّا إلى ما سبق في أول هذه الآيات من قوله: {وقضى ربك} إلخ [الإسراء: 23].
وهو تذييل معترض بين جمل النهي.
والإشارة إلى جميع ما ذكر من الأوامر والنواهي صراحةً من قوله: {وقضى ربك} [الإسراء: 23].
وفي هذا التذييل تنبيه على أنّ ما اشتملت عليه الآيات السبع عشرةَ هو من الحكمة، تحريضًا على اتباع ما فيها وأنه خير كثير.
وفيه امتنان على النبي بأن الله أوحى إليه، فذلك وجه قوله: مما أوحى إليك تنبيهًا على أن مثل ذلك لا يصل إليه الأميون لولا الوحي من الله، وأنه علمه ما لم يكن يعلم وأمره أن يعلمه الناس.
والحكمة: معرفة الحقائق على ما هي عليه دون غلط ولا اشتباه، وتطلق على الكلام الدال عليها.
وتقدم في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء} [البقرة: 269].
عطف على جمل النهي المتقدمة، وهذا تأكيد لمضمون جملة {ألا تعبدوا إلا إياه} [الإسراء: 23]، أعيد لقصد الاهتمام بأمر التوحيد بتكرير مضمونه وبما رتب عليه من الوعيد بأن يجازى بالخلود في النار مهانا.
والخطاب لغير معين على طريقة المنهيات قبله، وبقرينة قوله عقبه: {أفأصفاكم ربكم بالبنين} الآية [الإسراء: 40].
والإلقاء: رمْي الجسم من أعلى إلى أسفل، وهو يؤذن بالإهانة.
والملوم: الذي يُنكر عليه ما فعله.
والمدحور: المطرود، أي المطرود من جانب الله، أي مغضوب عليه ومبعد من رحمته في الآخرة.
وتُلقى منصوب في جواب النهي بفاء السببية والتسبب على المنهي عنه، أي فيتسبب على جعلك مع الله إلهًا آخر إلقاؤك في جهنَم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}.
نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية. وقوله: {مَرَحًا} مصدر منكر، وهو خال على حد قول ابن مالك في الخلاصة:
ومصدر منكر حالا يقع ** بكثرة كبغتة زيد طلع

وقرئ: {مرحًا} بكسر الراء على أنه الوصف من مرح بالكسر يمرح بالفتح أي لا تمش في الأرض حال كونك متبخترًا متمايلًا مشي الجبارين.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله عن لقمان مقررًا له {وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ واقصد فِي مَشْيِكَ} [لقمان: 18-19] الآية، وقوله: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} [الفرقان: 63] الآية، إلى غير ذلك من الايات.
واصل المرح في اللغة: شدة الفرح والنشاط، وإطلاقه على مشي الإنسان متبخترًا مشي المتكبرين، لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادة.
وأظهر القولين عندي في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض} أن معناه لن تجعل فيها خرقًا بدوسك لها وشدة وطئك عليها، ويدل لهذا المعنى قوله بعده {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولًا} أي انت إيها المتكبر المختال: ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادين! أنت عاجز عن التأثير فيهما. فالأرض التي تحتك لا تقدر أن تؤثر فيها فتخرقها بشدة وطئك عليها، والجبال الشامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها. فاعرف قدرك! ولا تتكبر، ولا تمش في الأرض مرحًا.
القول الثاني: أن معنى {لَن تَخْرِقَ الأرض} لن تقطعها بمشيك. قاله ابن جرير، واستشهد له بقولرؤبة بن العجاج:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق ** مشبه الأعلام لما ع الخفق

لأن مراده بالمخترق: مكان الاختراق. أي المشي والمرور يه. وأجود الأعاريب في قوله: {طُولًا} أنه تمييز محول عن الفاعل، أي لن يبلغ طولك الجبال. خلافًا لمن أعربه حالًا ومن أعربه مفعولًا من أجله. وقد أجاد من قال:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعًا ** فكم تحتها قوم هم منك أرفع

وإن كنت في عز وحرز ومنعة ** فكم مات من قوم هو منك أمنع

واستدل بعض اهل العلم بقوله تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا} على منع الرقص وتعاطيه. لأن فاعله ممن يمشي مرحًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)}.
ما زالت الآيات تسير في خطٍّ واحد، وترسم لنا طريق التوازن الاجتماعي في مجتمع المسلمين، فالمجتمع المتوازن يصدر في حركته عن إله واحد، هو صاحب الكلمة العليا وصاحب التشريع.
والمتتبع لهذه الآيات يجد بها منهجًا قويمًا لبناء مجتمع متماسك ومتوازن، يبدأ بقوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا آخَرَ..} [الإسراء: 22]
وهذه قضية القمة التي لا تنتظم الأمور إلا في ظلّها، ثم قسّم المجتمع إلى طبقات، فأوصى بالطبقة الكبيرة التي أدَّت مهمتها في الحياة، وحان وقت إكرامها وردِّ الجميل لها، فأوصى بالوالدين وأمر ببّرهما.
ثم توجّه إلى الطبقة الصغيرة التي تحتاج إلى رعاية وعناية، فأوصى بالأولاد، ونهى عن قتلهم خَوْفَ الفقر والعَوز، وخَصَّ بالوصية اليتيم؛ لأنه ضعيف يحتاج إلى مزيد من الرعاية والعناية والحنو والحنان.
ثم تكلم عن المال، وهو قوام الحياة، واختار فيه الاعتدال والتوسُّط، ونهى عن طرفَيْه: الإسراف والإمساك. ثم نهى عن الفاحشة، وخصَّ الزنا الذي يُلوِّث الأعراض ويُفسد النسل، ونهى عن القتل وسَفْك الدماء.
ثم تحدث عمَّا يحفظ للإنسان ماله، ويحمي تعبه ومجهوداته، فأمر بتوفية الكيل والميزان، ونهى عن الغش فيهما والتلاعب بهما، ثم حَثَّ الإنسان على الأمانة العلمية، حتى لا يقول بما لا يعلم، وحتى لا يبني حياته على نظريات خاطئة.
ألم تَرَ أنه منهج وأسلوب حياة يضمن سلامة المجتمع، وسلامة المجتمع ناشئة من سلامة حركة الإنسان فيه، إذن: الإنسان هو مدار هذه الحركة الخلافية في الأرض؛ لذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أنْ يضع له توازنًا اجتماعيًا.
وأوّل شيء في هذا التوازن الاجتماعي أننا جميعًا عند الله سواء، وكلنا عبيده، وليس منا مَنْ بينه وبين الله قرابة أو نَسَب، فالجميع عند الله عبيد كأسنان المشط، لا فَرْق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح.
وإنْ تفاوتت أقدارنا في الحياة فهو تفاوت ظاهري شكلي؛ لأنك حينما تنظر إلى هذا التفاوت لا تنظر إليه من زاوية واحدة فتقول مثلًا: هذا غني، وهذا فقير.
ومعظم الناس يهتمون بهذه الناحية من التفاوت، ويَدَعُون غيرها من النواحي الأخرى، وهذا لا يصح، بل انظر إلى الجوانب الأخرى في حياة الإنسان، وإلى الزوايا المختلفة في النفس الإنسانية، ولو سلكتَ هذا المسلك فسوف تجد أن مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان، وأن الحصيلة واحدة، وصدق الله العظيم القائل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ..} [الحجرات: 13]
وما دام المجتمع الإيماني على هذه الصورة فلا يصح لأحد أنْ يرفعَ رأسه في المجتمع ليعطي لنفسه قداسةً أو منزلة فوق منزلة الآخرين، فقال تعالى: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا..} [الإسراء: 37]
أي: فخرًا واختيالًا، أو بَطَرًا أو تعاليًا؛ لأن الذي يفخر بشيء ويختال به، ويظن أنه أفضل من غيره، يجب أن يضمن لنفسه بقاء مَا افتخر به، بمعنى أن يكون ذاتيًا فيه، لا يذهب عنه ولا يفارقه، لكن من حكمة الله سبحانه أنْ جعل كل ما يمكن أن يفتخر به الإنسان هِبةً له، وليست أصيلة فيه.